فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ ثُمَّ إلَيْه تُرْجَعُونَ (11)}.
لما ذكر أن عاقبتهم إلى الجحيم وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال يبدأ الخلق، يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة فإليه ترجعون، ثم بين ما يكون وقت الرجوع إليه.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلسُ الْمُجْرمُونَ (12)}.
في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم، والإبلاس يأس مع حيرة، يعني يوم تقوم الساعة يكون للمجرم يأس محير لا يأس هو إحدى الراحتين، وهذا لأن الطمع إذا انقطع باليأس فإذا كان المرجو أمرًا غير ضروري يستريح الطامع من الانتظار وإن كان ضروريًا بالإبقاء له بوونه ينفطر فؤاده أشد انفطار، ومثل هذا اليأس هو الإبلاس ولنبين حال المجرم وإبلاسه بمثال، وهو أن نقول مثله مثل من يكون في بستان وحواليه الملاعب والملاهي، ولديه ما يفتخر به ويباهي، فيخبره صادق بمجيء عدو لا يرده راد، ولا يصده صاد، إذا جاءه لا يبلعه ريقًا، ولا يترك له إلى الخلاص طريقًا، فيتحتم عليه الاشتغال بسلوك طريق الخلاص فيقول له طفل أو مجنون إن هذه الشجرة التي أنت تحتها لها من الخواص دفع الأعادي عمن يكون تحتها، فيقبل ذلك الغافل على استيفائه ملاذه معتمدًا على الشجرة بقول ذلك الصبي فيجيئه العدو ويحيط به، فأول ما يريه من الأهوال قلع تلك الشجرة فيبقى متحيرًا آيسًا، مفتقرًا، فكذلك المجرم في دار الدنيا أقبل على استيفاء اللذات وأخبره النبي الصادق بأن الله يجزيه، ويأتيه عذاب يخزيه، فقال له الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إن هذه الأخشاب التي هي الأوثان دافعة عنك كل بأس، وشافعة لك عند خمود الحواس، فاشتغل بما هو فيه واستمر على غيه حتى إذا جاءته الطامة الكبرى فأول ما أرته إلقاء الأصنام في النار فلا يجد إلى الخلاص من طريق، ويحق عليه عذاب الحريق، فييأس حينئذٍ أي إياس ويبلس أشد إبلاس.
وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مّن شُرَكَائهمْ شُفَعَاء وَكَانُوا بشُرَكَائهمْ كافرين} يعني يكفرون بهم ذلك اليوم.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}.
ثم بين أمرًا آخر يكون في ذلك اليوم وهو الافتراق كما قال تعالى في آية أخرى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] فكأن هذه الحالة مترتبة على الإبلاس، فكأنه أولًا يبلس ثم يميز ويجعل فريق في الجنة وفريق في السعير، وأعاد قوله: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} لأن قيام الساعة أمر هائل فكرره تأكيدًا للتخويف، ومنه اعتاد الخطباء تكرير يوم القيامة في الخطب لتذكير أهواله.
{فَأَمَّا الَّذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالحَات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)}.
ثم بين كيفية التفرق فقال تعالى: {فَأَمَّا الذين ءامَنُوا وَعَملُوا الصالحات فَهُمْ في رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي في جنة يسرون بكل مسرة.
{وَأَمَّا الَّذينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتنَا وَلقَاء الْآخرَة فَأُولَئكَ في الْعَذَاب مُحْضَرُونَ (16)} يعني لا غيبة لهم عنه ولا فتور له عنهم كما قال تعالى: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا منْهَا منْ غَمّ أُعيدُوا فيهَا} [الحج: 22] وقال: {لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} [آل عمران: 88] وفي الآيتين مسائل فيها لطائف:
المسألة الأولى:
بدأ بذكر حال الذين آمنوا مع أن الموضع موضع ذكر المجرمين، وذلك لأن المؤمن يوصل إليه الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب قبل أن يوصل إلى الكافر العقاب حتى يرى ويتحقق أن المؤمن وصل إلى الثواب فيكون أنكى، ولو أدخل الكافر النار أولًا لكان يظن أن الكل في العذاب مشتركون، فقدم ذلك زيادة في إيلامهم.
المسألة الثانية:
ذكر في المؤمن العمل الصالح ولم يذكر في الكافر العمل السيىء، لأن العمل الصالح معتبر مع الإيمان، فإن الإيمان المجرد مفيد للنجاة دون رفع الدرجات ولا يبلغ المؤمن الدرجة العالية إلا بإيمانه وعمله الصالح، وأما الكافر فهو في الدركات بمجرد كفره فلو قال: والذين كفروا وعملوا السيئات في العذاب محضرون، لكان العذاب لمن يصدر منه المجموع، فإن قيل فمن يؤمن ويعمل السيئات غير مذكور في القسمين، فنقول له منزلة بين المنزلتين لا على ما يقوله المعتزلة، بل هو في الأول في العذاب ولكن ليس من المحضرين دوام الحضور، وفي الآخرة هو في الرياض ولكنه ليس من المحبورين غاية الحبور كل ذلك بحكم الوعد.
المسألة الثالثة:
قال في الأول {فى رَوْضَةٍ} على التنكير، وقال في الآخر في العذاب على التعريف، لتعظيم الروضة بالتنكير، كما يقال لفلان مال وجاه، أي كثير وعظيم.
المسألة الرابعة:
قال في الأول: {يُحْبَرُونَ} بصيغة الفعل ولم يقل محبورون، وقال في الآخر: {مُحْضَرُونَ} بصيغة الاسم ولم يقل يحضرون، لأن الفعل ينبىء عن التجدد والاسم لا يدل عليه فقوله: {يُحْبَرُونَ} يعني يأتيهم كل ساعة أمر يسرون به.
وأما الكفار فهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله تعالى: {يُبْلسُ الْمُجْرمُونَ}.
فيه ستة أوجه:
أحدها: أنه الفضيحة، قاله مجاهد.
الثاني: الاكتئاب، قاله ابن أبي نجيح.
الثالث: الإياس، قاله ابن عباس.
الرابع: الهلاك، قاله السدي.
الخامس: الندامة، قاله ابن قتيبة.
السادس: الحيرة، قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسْمًا مكرسًا ** قال نعم أعرفه وأبلسَا

قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: في الجزاء بالثواب والعقاب.
الثاني: في المكان بالجنة والنار.
قوله تعالى: {فَهُمْ في رَوْضَةٍ يَحْبَرُونَ} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: يمكرون، قاله ابن عباس.
الثاني: ينعمون، قاله مجاهد وقتادة.
الثالث: يتلذذون بالسماع والغناء، قاله يحيى بن أبي كثير.
الرابع: يفرحون، قاله السدي. والحبرة عند العرب السرور والفرح قال العجاج:
فالحمد لله الذي أعطى الحبر ** موالي الحي إن المولى يَسَر

فأما الروضة فهي البستان المتناهي منظرًا وطيبًا ولم يكن عند العرب أحسن منظرًا ولا أطيب منها ريحًا قال الأعشى:
ما روضة من رياض الحزن معشبةٌ ** خضراء جاد عليها مسبل هطل

يضحك الشمس منها كوكب شَرقٌ ** مؤزر بعميم النبت مكتهل

يومًا بأطيب منها نشر رائحةٍ ** ولا بأحسن منها إذا دنا الأُصُل

قوله تعالى: {في الْعَذَاب مُحْضَرُونَ} فيه خمسة تأويلات:
أحدها: مدخلون، قاله يحيى بن سلام.
الثاني: نازلون ومنه قوله: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوتُ} [البقرة: 180] و[المائدة: 106] أي نزل به.
الثالث: مقيمون، قاله ابن شجرة.
الرابع: معذبون.
الخامس: مجموعون، ومعاني هذه التأويلات متقاربة. اهـ.

.قال ابن عطية:

ثم أخبر تعالى إخبارًا مطلقًا لجميع العالم بالحشر والبعث من القبور، وقرأ طلحة وابن مسعود {يُبديء} بضم الياء وكسر الدال، وقرأ جمهور القراء {ترجعون} بالتاء من فوق، وقرأ أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالياء، وقوله: {ويوم} منصوب ب {يبلس} والإبلاس الكون في شر مع اليأس من الخير في ذلك الشر بعينه، فإبلاسهم هو في عذاب الله تعالى، وقرأ عامة القراء بكسر اللام، وقرأ أبو عبد الرحمن وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بفتحها، وأبلس الربع إذا بلي وكأنه يئس من العمارة ومنه قول العجاج:
يا صاح هل تعرف رسمًا مكرسا ** قال نعم أعرفه وأبلسا

وقرأ عامة القراء {ولم يكن لهم} بالياء من تحت، وروي عن نافع {تكن} بالتاء من فوق، والشركاء المشار إليهم هو الأصنام أي الذين كانوا يجعلونهم شركاء لله بزعمهم.
وقوله: {وكانوا} معناه يكونون عند معاينتهم أمر الله وفساد حال الأصنام فعبر عنه بالماضي لتيقن الأمر وصحة وقوعه.
{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)}.
{يتفرقون} معناه في المنازل والأحكام والجزاء، قال قتادة: فرقة والله لا اجتماع بعدها و{يحبرون} معناه ينعمون، قاله مجاهد، والحبرة والحبور السرور والتنعم، وقال يحيى بن أبي كثير: {يحبرون} معناه يسمعون الأغاني، وهذا نوع من الحبرة، وقال ابن عباس {يحبرون} يكرمون وفي المثل امتلأت بيوتهم حبرة فهم ينظرون العبرة ومنه بيت أبي ذؤيب: الطويل:
فراق كقيص السن فالصبر انه ** لكل أناس عبرة وحبور

هذا على هذه الرواية، ويروى عثرة وحبور، وهي أكثر وذكر تعالى: الروضة لأنها من أحسن ما يعلم من بقاع الأرض، وهي حيث اكتمل النبت الأخضر وجن وما كان منها في المرتفع من الأرض كان أحسن، ومنه قول الأعشى: البسيط:
وما روضة من رياض الحزن معشبة ** خضراء جاد عليها مسل هطل

ومنه قول كثير: الطويل:
فما روضة طيبة الثرى ** تمج النداء جثجاثها وعرارها

قال الأصمعي: ولا يقال روضة حتى يكون فيها ماء يشرب منه، و{محضرون} معناه مجموعون له لا يغيب أحد عنه. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {الله يبدأ الخَلْق ثم يُعيدُه} أي: يخلُقهم أوّلًا، ثم يعيدهم بعد الموت أحياءً كما كانوا، {ثُمَّ إليه تُرْجَعون} قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم: {تُرْجَعون} بالتاء؛ فعلى هذا يكون الكلام عائدًا من الخبر إلى الخطاب وقرأ أبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: بالياء، لأن المتقدّم ذكْره غَيبة، والمراد بذكر الرجوع: الجزاءُ على الأعمال، والخَلْق بمعنى المخلوقين، وإنما قال: {يُعيده} على لفظ الخَلْق.
قوله تعالى: {يُبْلسُ المجرمون} قد شرحنا الإبلاس في [الأنعام: 44].
قوله تعالى: {وَلمْ يكُن لهم من شركائهم} أي: من أوثانهم التي عبدوها {شفعاء} في القيامة {وكانوا بشركائهم كافرين} يتبرَّؤون منها وتتبرَّأ منهم.
قوله تعالى: {يومَئذ يتفرَّقون} وذلك بعد الحساب ينصرف قوم إلى الجنة، وقوم إلى النار.
قوله تعالى: {فهُم في روضة} الرَّوضة: المكان المخضرُّ من الأرض؛ وإنَّما خصَّ الروضة، لأنها كانت أعجب الأشياء إلى العرب؛ قال أبو عبيدة: ليس شيءٌ عند العرب أحسنَ من الرياض المُعْشبة ولا أطيبَ ريحًا، قال الأعشى:
مَا رَوْضَةٌ من رياض الحَزْن مُعْشبَةٌ ** خَضْرَاءُ جادَ عَلَيْهَا مُسْبلٌ هَطلُ

يَوْمًا بأطْيَبَ منْها نَشْرَ رائحَةٍ ** وَلا بأحْسَنَ منْها إذ دَنا الأُصُلُ

قال المفسرون: والمراد بالروضة: رياض الجنة.
وفي معنى {يُحْبَرون} أربعة أقوال.
أحدها: يُكْرَمون، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: يَنْعَمون، قاله مجاهد، وقتادة.
قال الزجاج: والحَبْرَة في اللغة: كل نَغْمَةَ حسنَة.
والثالث: يفرحون، قاله السدي.
وقال ابن قتيبة: {يُحْبَرون} يُسَرُّون، والحَبْرَة: السُّرور.
والرابع: أن الحَبْر: السَّماع في الجنة، فإذا أخذ أهل الجنة في السماع، لم تبق شجرة إلاَّ ورَّدت، قاله يحيى بن أبي كثير.
وسئل يحيى بن معاذ: أيّ الأصوات أحسن؟ فقال: مزامير أُنس، في مقاصير قُدس، بألحان تحميد، في رياض تمجيد {في مَقْعَد صدْقٍ عنْدَ مَليكٍ مُقْتَدر} [القمر: 55].
قوله تعالى: {فأولئك في العذاب مُحْضَرون} أي: هم حاضرون العذاب أبدًا لا يخفَّف عنهم. اهـ.